نازحات تعز.. ضحايا غير مرئيات للصراع

محلية (خاص)

دون حماية، وبالكثير من الوجع، تحاول فاطمة بشر، لملمة جراحها، وتربية من تبقى لها من اطفال، لكنها تواجه تحديات اقتصادية صعبة، وتعاني من وضع نفسي ضاعف من آلامها.

فاطمة التي تسير في عقدها الخامس، كانت أماً لتسعة أطفال، قبل أن تفقد ثلاثة منهم في رحلة الحرب والنزوح.

في العام 2019، فرت فاطمة من مديرية "دمنة خدير" جنوب شرق مدينة تعز، حيث كانت تعيش مع أسرتها. ومع وصول الحرب الى المنطقة، كان عليها الرحيل حفاظا على حياة زوجها، الملاحق من قبل أحد أطراف الصراع الممتد في البلد منذ العام 2015م.

نزحت فاطمة الى مدينة تعز، وبعد شهور قليلة، لم تعد الأسرة قادرة على دفع ايجارات المنزل، بعد أن انفقت كل مدخراتها، فنزحت مرة أخرى إلى حي الدعوة بمديرية صالة شرق مدينة تعز. لقد وجدوا منزلاً متاحاً للسكن بعد أن فر منه ساكنوه، غير أن الحي يقع في منطقة تماس، ويتعرض من وقت لآخر لقصف متبادل بين أطراف الصراع. ومع ذلك، قررت فاطمة البقاء في هذا المنزل الذي يشكل ملاذاً لها ولأبنائها الذين فروا من الحرب المروعة، مثلما هو الحال بالكثير من النازحين الذين فروا الى هذا الحي الذي تحول الى مخيم نزوح، محفوف بالخطر.

لم يدم استقرار أسرة فاطمة في هذا الحي كثيراً، حتى حلت الكارثة. لقد سقطت قذيفة الى الشارع المجاور للمنزل حيث كان اطفالها يلعبون، فقتل ثلاثة منهم وبترت رجل الطفل الرابع، وهو الآن بطرف صناعي.

تسببت الحادثة التي وقعت بداية العام 2021، بصدمة كبيرة للأم لم تتعافى منها حتى اليوم. كانت فاطمة تبكي بغزارة وهي تقلب البوم صور ابنائها:" قتلوا حميد ومحمود وليلى، وقطعوا رجل حامد عمره 6 سنوات". وتضيف: "هذه صورة حميد وهو حي وهذه صورته وهو ميت". ألبوم فاطمة يضم صوراً لأطفالها أحياء وأموات وكل يوم تنظر إليهم.

عدا ذلك، تواجه فاطمة تحديات اقتصادية حقيقية، في ظل انعدام مصدر دخل للأسرة، فالزوج يعاني من البطالة، ومن الصعب على النازحين العثور على فرص عمل لتأمين احتياجات أسرهم، كما أن المنزل الذي يعيشون فيه يفتقر لأبسط الخدمات حيث لا ماء ولا كهرباء، أو غاز للطبخ.

وبالإضافة الى الوضع الاقتصادي الصعب، تعاني فاطمة من حالة نفسية سيئة، بعد فقدانها لأطفالها الثلاثة. الحرب والنزوح تركوا ندوباً عميقة على روحها، وتشعر بالخوف والقلق المستمر، تعاني من صدمة نفسية وينتابها شعوراً بالعجز والاكتئاب في بعض الاحيان، وهذا العبء النفسي والاقتصادي يجعلان حياتها كابوساً لا يطاق.

قصة فاطمة، تجسد معاناة آلاف النساء النازحات في عدد من مخيمات النزوح الممتدة على طول المناطق الغربية لمدينة تعز. حيث يفتقرن للحماية والخدمات الاساسية، بالإضافة الى نقص الرعاية الصحية والمساعدات الاغاثية.

 ومن منطقة صالة، الى مخيم الكدحة، مروراً بمخيمات الحجب، جبل زيد، الملكة، النخيع، منيف، والبيرين تتعدد مخيمات النازحين بتعز، وتتشابه معاناتهم، التي تبدو مضاعفة وأكثر تعقيدا بالنسبة للنساء والفتيات.

والى جانب العنف الجسدي المتمثل بسقوط القذائف في المخيمات الواقعة على خط التماس، او انفجار المقذوفات ومخلفات الحرب، او الاعتداء بالضرب عليهن، تواجه النازحات في تعز اشكال مختلفة من العنف، بما في ذلك العنف الجنسي واللفظي وزواج الاطفال واستغلالهم في العمل.

 وكنوع من الحماية، تقوم غالبية الأسر بتزويج بناتها في سن الطفولة، خوفاً عليهن من الاعتداء الجنسي، وهو ما تسبب بارتفاع نسب حالات زواج الطفلات غير الطوعي في مخيمات النزوح بتعز.

تقول "أم ريم"، وهي نازحة طلبت عدم الكشف عن هويتها، انها اضطرت لتزويج ابنتها البالغة من العمر 13 عاماً، من رجل يكبرها بثلاثة عقود. "تعبت من الخوف عليها، ونعيش في منطقة غير آمنة، ومع كثرة القصص التي نسمعها عن الاعتداء على البنات واغتصابهن، اضطرينا نزوجها برجال بسن أبوها متزوج وعنده بنات أكبر منها". واضافت بحسرة:" تكون زوجة ثانية أفضل من أن تفقد شرفها".

تعاني النازحات أيضا من استغلال المجتمع المضيف، وتروي " سارة - اسم وهمي"، قصة طفلتها التي زوجها والدها مرغماً، الى مالك المنزل الذي تسكن فيه الأسرة. وتقول: استغل مالك البيت عجزنا عن دفع ايجارات المنزل، بعد أن تراكمت علينا، وطلب الزواج من ابنتي 14 عاما رغم فارق السن الكبير بينهما، ووافق والدها مكرها على ذلك". ومن بين الحقوق المنتهكة للفتيات في مخيمات النزوح بتعز، حرمانهن من حقهن في التعليم.

ويرجع موسى الخليدي من الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين بمحافظة تعز، العنف ضد المرأة النازحة الى عدد من الاسباب من بينها، العادات والتقاليد والتهميش والنظر الدونية للمرأة النازحة، والخطاب التحريضي ضدها، اضافة الى تدهور الحالة الاقتصادية للأسر وتدني مستوى المعيشة، موضحا ان الكثير من الأسر النازحة تضطر لتزويج بناتها في سن مبكر خوفا عليها، ولأسباب اقتصادية ايضا.  واقر الخليدي بتعرض النساء النازحات في تعز الى عنف عند نزوحهن من منطقة لأخرى، وهو ما يتسبب لهن بصدمات نفسية.

واقع مرير

فضلاً عن العنف القائم على النوع الاجتماعي، وانعدام الأمن الاقتصادي، جراء محدودية فرص العمل، تعاني النازحات واسرهن من غياب المساعدات التي لا يزال وصولها الى عدد من المخيمات الواقعة في مناطق التماس امر صعب للغاية. ان بقاء النازحات في مناطق التماس جعلهن بعيدات عن عدسات الاعلام، وبالتالي غير مرئيات بالنسبة للمنظمات الاغاثية.

 

ان وجود النازحات مع اسرهن في هذه المخيمات كان اضطراريا، اذ لا مكان اخر يمكنهن الذهاب اليه، لقد هربن من مناطقهن الاصلية بحثا عن الأمان والحماية، لكنهن يواجهن اليوم، عنف متزايد واهمال وحرمان من ابسط الاحتياجات، ويعشن مع اطفالهن، بلا امل ولا عمل ولا تطلع للمستقبل.

هذه القصص تعكس واقعا مريرا تعيشه النساء النازحات في تعز، وتستدعي تدخلا فوريا لتوفير الحماية والدعم اللازمين للنساء والفتيات المحرومات من حقوقهن الاساسية. وهو ما يؤكد عليه عماد السقاف رئيس مركز يمن ميديا للتنمية، الذي قال ان ضعف مستوى خدمات الحماية للنازحات والفتيات في محافظ تعز، تكشف عن خلل في برامج المنظمات الاغاثية، ويحول دون تحقيق الأثر المستدام للبرامج والتدخلات الاغاثية.

  وقال ان النازحات يعشن في مساكن ومخيمات تفتقر للخصوصية ولا تتوفر فيها حمامات أسرية ولا إضاءة وأصبحن أكثر عرضة للمخاطر الصحية والتحرش والايذاء النفسي.

ويمثل انعدام الأمن الغذائي لدى النساء النازحات أهم تهديدات الحماية حيث تتلقى الأسر النازحة المساعدات بشكل متقطع وتجبر النساء والفتيات النازحات على امتهان التسول والقبول بأعمال تعرضهن للاستغلال.

ويشير السقاف الى معاناة النازحات من اثار النزاعات مع المجتمع الحاضن او المستضيف جراء شدة التنافس على الموارد الضئيلة اصلا والتي يتم منع النازحات والفتيات من الوصول اليهن. وبسب ندرة توفر المياه بشكل كافي وعدم القدرة على دفع قيمة الغاز المنزلي تقطع النساء والفتيات النازحات مسافات طويلة لجلب المياه والحطب ويتعرضن لعدد من أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي من بينها اعتداءات جسدية وتحرش وتهديد بالسلاح والطرد القسري.

كما اوضح السقاف ان النساء الأرامل والمطلقات النازحات يعاني من تنمر مجتمعي ومضايقات مستمرة وصعوبة باستئجار المنازل.

مشكلات نفسية وعقلية

والى جانب المشاكل الصحية المتعددة التي تعاني منها غالبية النازحات، بات عدد منهن يعانين من مشكلات نفسية وعقلية، يتملكهن القلق، ويسيطر الخوف على مستقبل اطفالهن. الكثير منهن يحتجن للدعم الاجتماعي والنفسي، لكنهن لا يحصلن على شيء من ذلك. 

لا توجد احصائيات عن النازحات اللائي حاولن الانتحار، رغم حديث بعض النازحات عن ذلك، وخاصة في صفوف الفتيات المراهقات. لكن غالبية النساء في مخيمات النزوح يعانين من الاكتئاب واضطرابات نفسية كبيرة.

ولمواجهة ذلك، يؤكد عماد السقاف، على اهمية تشجيع المنظمات المحلية لتبنى مشاريع وبرامج حماية مشتركة متعددة القطاعات عبر نظام إدارة الحالة تتضمن الدعم النفسي الاجتماعي والمهارات الحياتية ومبادرات مدرة للدخل والتنسيق مع الكتل الفرعية والمنظمات الدولية العاملة بالحماية بتخصيص خدمات طارئة مستجيبة والتركيز على المشاريع التنموية في مناطق النزوح. وقال ان ذلك من شانه تخفيف التنافس على الموارد بين النازحين والمجتمع الحاضن وتحسين التماسك الاجتماعي كرفع قدرات مشاريع المياه وتأهيل وتشغيل المراكز الصحية.